--------------------------------------------------------------------------------
كثر الأطباء النفسيون، ويبدو أن زائريهم يتضاعفون أيضا في كل أنحاء العالم.
ومن البديهي أن نستنتج أن المشكلات النفسية والوجدانية تتزايد في العالم
ولذلك أسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا, ولكن ثمة سبب مهم جدا:
الإنصات! فيدفع الكثيرون ثمنا عاليا ليجدوا من ينصت لهم باهتمام –وينصحهم أيضا- دون أحكام سابقة أو تأنيب,
...
وهذا إن كان يدل على شيء فهو عدم إجادتنا لأهم فنون تعاملاتنا .. حوارا ونقاشا وإنصاتا وتحدثا ..
ويكفي إلقاء نظرة على حالنا :
فهذا مجلس يجمع بين الصغير والكبير والمثقف والأقل ثقافة
الكل متلهف على الحديث ويراجع في رأسه ما ينوي قوله لإضحاك الجمع أو إبهارهم بعلمه و ذكائه,
ونادرا ما يفكر أحد الجلساء في أن يصفي ذهنه للإنصات ولو لبرهة لعله يتعلم أو يستفيد.
وتصبح بذلك خطوط الاتصال بين الناس شوارع متوازية ذات اتجاه واحد,...
أما التقاء أي اثنين في نقطة واحدة فهو احتمال بعيد جدا
وهذا أب يجلس في مكانه المعتاد أمام شاشة التلفاز ,
يدخل ابنه ذو الأربعة عشر عاما وهو ممتلئ بالقصص و التجارب التي يتوق لأن يشاركه فيها أقرب الناس إليه.
ثم لا يجد له مستمعا .. ومصغيا .. فالعين لا تفارق التلفاز
و مشاركته لا تتعدى تلك الأصوات التي يصدرها كل حين و آخر و التي تعني: نعم نعم,أكمل .. "اخلص!".
فكيف يشعر الابن في ظنكم؟ هل يحس أن أباه مهتم به و بحياته و تجاربه؟
هل يرغب بعد ذلك في أن يشرك والده في أفكاره و أحلامه و تساؤلاته؟
ثم كيف يتعرف الأب إلى ابنه ويتابع تطور شخصيته؟
وسق على ذهنك من الأحداث العديد وتوقع من المشاكل التي تكون ثمرة هذا الانقطاع المزيد
فما بالنا لا ننصت إذا؟ وكيف ننصت ؟
-أما لماذا لا ننصت فهو يحتمل أمرين ( و قد يكون لهما ثالث ورابع وعاشر ، لا تحضرني )
فنحن نعاني من قلة وعي بأهمية الإنصات ,
فلا تركيز سواء في البيت أو في المدرسة على هذا الجانب من الاتصال الإنساني
(في حين أن العالم ممتلئ بالدورات التي تطور ملكة الكلام و الإقناع و ما إلى ذلك).
و نحن نعاني من الأنانية والغرور , فكلامي أهم من كلام الآخر,
إذا فليستمع هو لما أقول ولا داعي لاستماعي له
وأما كيف ننصت فعلينا أن ندرك أولا أن الإنصات يتجاوز ولا يقتصر على وظيفة السمع البيولوجية التي يشترك فيها معظم الناس,
بل تشاركنا بها الحيوانات...
كما أن القدرة على ترديد ما نسمع حرفيا لا تدل هي الأخرى على إتقاننا لذلك الفن .
ثم لنا أن نتساءل ..لماذا نحرص على أن ينصت لنا الآخرون؟
مالذي نريده أو نتوقعه منهم؟
وهل هز الرأس وترديد النغمات دليل على إحساس الناس بما في دواخلنا حين نريد الإفصاح عنها ؟
وإن كان الجواب حتما بلا فمن الجميل أن ندرك جيدا مقولة (عامل الناس كما تحب أن تعامل به )
فإذا أردت رؤية تغيير شيئ ما ,فما عليك إلا أن تبدأ بنفسك
وإذا أردت أن ينصت إليك الناس, تعلم كيف تنصت لهم.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم :"وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له و أنصتوا"
والمقصود هنا هو التجرد من الأحكام السابقة و الأهواء والنوايا المبيتة من عزم على الرفض أو الاستهزاء أو الانتصار للرأي,
ومن ثم الاستماع بتركيز و اهتمام بنية المعرفة و الفهم..
هذا هو جوهر الإنصات ودونه يفوت الإنسان على نفسه الفهم الحقيقي لمراد المتكلم الذي هو الخالق عز و جل.
أما في حال كلام البشر فثمة فرق واحد :كلام الله لا راد له ,وكلام البشر يقبل و يرد,
ويبقى الهدف هو فهم قصد المتكلم ,فإن لم تنصت و لم تفهم بـــاتـ حوارك (كحوار الطرشان) لا يغني و لا يثمر إن لم يضر...
إذا الإنصات فن يجب أن نتعلمه جيدا ..
فهو مهم لإقناع محاورك فإنصاتك له و فهمك لحججه و دوافعه سيمكنك من معرفة مداخله النفسية
مما يسهل عليك إقناعه بوجهة نظرك. كما سيجعله أكثر اهتماما وإنصاتا بما تقول
وهو مهم في الاستنارة بآراء من حولنا ..
كما إن الإنصات مصدر ثمين للمعرفة الإنسانية والاجتماعية التي لا تدرس في الكتب.
....
ولنا في حبيبنا ورسولنا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم أسوة حسنة
حين وصفه أصحابه الكرام بأنه كان ينصت لكل من يقصده ويتوجه بجسده ووجهه للمتحدث,
بل لا يصرف وجهه عنه حتى ينتهي .
فإن كان خاتم الأنبياء وحامل أعظم وأثقل رسالة على وجه الأرض يولي الإنصات كل تلك الأهمية,
ألا نفعل نحن الأدنى مقاما والأخف حملا؟
الرئيسية 
أحدث الصور 
